سورة الحديد - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{قفينا} معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر عيسى عليه السلام تشريفاً وتخصيصاً.
وقرأ الحسين: {الأنجيل} بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مما لا نظير له. و: {رأفة ورحمة ورهبانية} مفعولات {جعلنا}. والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق.
وقوله: {ابتدعوها} صفة ل {رهبانية} وخصها بأنها ابتدعت، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة: حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب {رهبانية} أنها نصب بإضمار فعل يفسره {ابتدعوها} وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق، ففرقة قاتلت الملوك على الدين، فقتلت وغلبت. وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك {ابتغاء رضوان الله}، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى {كتبناها عليهم} {ابتغاء رضوان الله}. ف كتب على هذا بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل.
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله: {فما رعوها} من المراد به؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى: أي لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه. قال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين. وقرأ ابن مسعود: {ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها}.
وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله} اختلف الناس في المخاطب بهذا، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، الحديث وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله}، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به.
وقوله: {كفلين} أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى الأشعري: {كفلين} ضعفين بلسان الحبشة، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار: كم كان التضعيف للحسنات فيكم؟ فقال ثلاثمائة وخمسون، فقال عمر: الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً، قال الله تعالى: «هل نقصتم من أجركم شيئاً، قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء». والكفل: الحظ والنصيب. والنور: هنا إما أن يكون وعداً بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.


روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين حسد أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنها أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون، ولا في قوله: {لئلا} زائدة كما هي في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] على بعض التأويلات.
وقرأ ابن عباس {ليعلم أهل الكتاب}، وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: {كي يعلم}، وروي عن ابن عباس: {لكي لا يعلم}. وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: {لأي يعلم}. وقرأ ابن مسعود وابن جبير وعكرمة: {لكي يعلم أهل الكتاب}، وقرأ الحسن فيما روى ابن مجاهد: {لَيْلا يعلم} بفتح اللام وسكون الياء. فأما فتح اللام فلغة في لام الجر مشهورة وأصل هذه القراءة لأن لا، استغني عن الهمزة بلام الجر فحذفت فجاء لأن لا، أدغمت النون في اللام للتشابه فجاء للا، اجتمعت أمثلة فقلبت اللام الواحدة ياء. وقرأ الحسن فيما روى قطرب: {لِيْلا} بكسر اللام وسكون الياء وتعليلها كالتي تقدم.
وقوله تعالى: {ألا يقدرون} معناه: أنهم لا يملكون فضل الله ويدخل تحت قدرهم، وقرأ ابن مسعود: {ألا يقدروا} بغير نون، وباقي الآية بين.

1 | 2 | 3 | 4